العـقـاد بـين صناعة التاريخ وحقيقة العلم
مِمَّا أَعْلَمُهُ يـَقِينَاً أَنَّ جَمْهَرَةَ المُثَقَّفِينَ فِي بِلاَدِنَا كَادَت أَنْ تَتَوَقَّفَ عِنْدَ جِيلِ
العَقَّادِ وَطَه حُسَيْن وَالرَّافِعِيِّ؛وَلَم تَبْحَث وَرَاءَ ذَلِكَ؛وَغَايَةُ مَنْ يـَدَّعِي الاطِّلاَعَ وَالمَعْرِفَةَ
أَنْ يُبَاهِي بِمَا قَرَأَ مِنْ كُتُبِ مُحَمَّد مَنْدُور أَوْ رِوَايَاتِ نَجِيب مَحْفُوظ؛وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الكَثْرَةَ الكَاثِرَةَ بِبِلاَدِنَا لَنْ تَقْدِرَ عَلَى الخَوْضِ فِي مُعْتَرَكِ الثَّقَافَةِ الحَقِيقِيَّةِ فِي بـَابـَةِ العِلْمِ
وَالأَدَبِ ـ تَارِيخَاً وَرِجَالاً ـ؛وَلِهَذَا فَأَنـَا عَلَى إِيمَانٍ بِأَنَّ احْتِمَالِيَّةَ ظُهُورِ أَمْثَالِ شَوْقِي ضَيْف ـ
رَحِمَهُ اللهُ تَعَالِي ـ هِىَ كَاحْتِمَالِيَّةِ وُجُودِ المَاءِ فِي البَيْدَاءِ فِي سَاعَةِ قَيْظٍ؛فَلَوْ قُلْتُ رَحْمَةُ اللهِ
عَلَى طَبَقَةِ الأُدَبـَاءِ العُلَمَاءِ؛لَمَا رَأَيـْتُ نـَفْسِي مُغَالِيَاً أَوْ ذَاهِبَاً مَعَ الغُلُوِّ مَذْهَبَاً؛
وَكَثِيرَاً مَا أَجِدُ نـَفْسِي مُغْتَاظَاً حَنِقَاً حِينَ يَجْمَعُنِي مَجْلِسٌ أَوْ لِقَاءٌ عَابِرٌ بِأَحَدِ حَامِلِي شَهَادَةِ
المَاجِسْتِير أَوْ الدُّكْتُورَاه؛فَأَجِدُ مِنْهُ جَهْلاً فَظِيعَاً لاَ يُطَاقُ وَلاَ يُحْتَمَلُ بِتَارِيخِ أَعْلاَمِ الأَدَبِ ـ
عَلَى اتـِّسَاعِ فُـنُونِهِ ـ؛وَمَعَ ذَلِكَ تَرَاهُ يُطَنْطِنُ بِمُنْجَزَاتِهِ وَيَكَادُ أَنْ يُجَنَّ بِعَبْقَرِيـَّتِهِ الَّتِي
لاَ يَحْتَمِلُهَا هَذَا الكَوْكَبُ الجَاهِلُ؛فَلَوْ أَنـْصَتَّ لَهُ وَهُوَ يُخْرِجُ الكَلاَمَ مِنْ فِيهِ لَعَلِمْتَ أَنـَّهُ
صَادِقٌ فِي أَنَّ الأَرْضَ قَـد ضَاقَت بِهِ؛نـَعَم ... فَلَوْ أَنـْصَتَّ لَهُ لأَيـْقَنْتَ أَنـَّكَ أَمَامَ مُهَرِّجٍ
لَهُ الهَبَلُ؛فَإِمَّا أَنْ تَضْحَكَ سُخْرِيـَةً؛وَإِمَّا أَنْ تـَنْصَرِفَ خَوْفَاً عَلَى عَقْلِكَ مِنْ عَدْوَى النَّتَنِ
الأَدَائِيِّ الَّذِي يَفُوحُ مِنْ هَذَا المُتَكَلِّمِ؛فَإِنْ تَحَامَلْتَ عَلَى نـَفْسِكَ رَجَاءَ أَنْ يَأْتِي هَذَا الصَّوْتُ
المُنْكَرُ بِفَائِدَةٍ تـَشِي بِمَحْضِ اطِّلاَعِهِ ـ وَلاَ أَقُـولُ بِتَبَحُّرِهِ ـ؛مَا ظَفِرْتَ إِلاَّ بِمَحْصُولِ
المَجَانِينِ وَثـَمَرَاتِ المُمَخْرِقِينَ؛وَلِذَلِكَ فَأَنـَا عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ هَذِهِ البِلاَدَ لَنْ تَعْرِفَ مَعْنَىً
مِنْ تِلْكَ المَعَانِي الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ مَنْ يَنْهَضُونَ لِلرِّيـَادَةِ؛وَإِنـَّمَا غَايَةُ مَا تَرَى فِي مِصْرَ
فِي هَذَا العَهْدِ هُوَ أَنْ تَرَى الأُلُوفَ المُؤلَّفَةَ مِنْ مُتَعَاطِي الشِّعْرِ؛فَإِذَا مَا جِئْتَ تَسْبِرُ فَسَتَجِدُ
نـَفْسَكَ مُجْبَرَاً عَلَى وَضْعِ هَذِهِ الآلاَفِ فِي صُنْدُوقِ قِمَامَةِ التَّارِيخِ الآنِيِّ لِلثَّقَافَةِ العَرَبِيَّةِ
فِي مِصْرَ؛وَلَن يَبْقَى لَكَ سِوَى عَدَدٍ مَحْدُودٍ مِمَّن يَقُومُونَ بِالشِّعْرِ وُفْقَ شُرُوطِهِ الَّتِي
مِنْ دُونِهَا لاَ يُسَمَّى الكَلاَمُ شِعْرَاً؛بـَلْ وَلَوْ ذَهَبْتُ إِلَى الزَّعْمِ بِأَنـَّهُ فِي بِلاَدِنَا هَذِهِ
عَشْرَةُ آلاَفِ شَاعِرٍ؛فَأَيُّ نـَهْضَةٍ ثـَقَافِيَّةٍ فِي أُمَّةٍ قَامَت تَعْوِيلاً عَلَى
فَـنِّ الشِّعْرِ وَحَسْب ؟!
مَضَى العَقَّادُ وَزَمَنُ العَقَّادِ؛وَمَا كَانَ العَقَّادُ بِنَبِيِّ الأَدَبِ الَّذِي عَدِمَت
بـُطُونُ النِّسَاءِ أَنْ تَأْتِي بِمِثْلِهِ؛وَعَقِمَت فَلاَ تَرَى لَهُ نَظِيرَاً أَوْ شَبِيهَاً؛وَإِنـَّمَا هِىَ
ظُرُوفٌ تـَارِيخِيَّةٌ سَاعَدَتـْهُ كَى يَصِلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ؛وَمَا كَانَ العَقَّادُ مِنْ عَبَاقِرَةِ
الأَدَبِ كَمَا يَزْعُمُ مَنْ آمَنُوا بِالمَقُولاَتِ المُتَوَارَثـَةِ دُونِ تَحْقِيقٍ وَتَدْقِيقٍ؛
وَلَسْنَا نُبَالِي بِالدُّنـْيَا لَوْ اجْتَمَعَت عَلَى أَمْرٍ رَأَيـْنَا أَنَّ الحَقَّ بِخِلاَفِهِ؛فَمَا كَانَ العَقَّادُ بِشَاعِرٍ؛
وَإِنـَّمَا هُوَ نـَاظِمٌ؛فَإِنْ دَخَلَ إِلَى دَائِرَةِ الوُجْدَانِ أَسْقَطَتْهُ جَلاَفَةُ طَبْعِهِ وَغِلْظَةُ مَشَاعِرِهِ؛
وَإِنْ نَظَمَ فِي رِثـَاءٍ فَقَلَّمَا يُفْلِحُ؛وَمَا رَأَيـْتُ لَهُ مَا يُسْتَجَادُ فِي هَذِهِ البَابَةِ سِوَى مَرْثِيَّتِهِ
فِي سَعْد زَغلُول؛وَرُبـَّمَا ظَفِرْتَ لَهُ بِبَعْضِ أَبـْيَاتٍ فَلْسَفِيَّةٍ أَخْرَجَهَا بَعْدَ إِعْمَالِ فِكْرٍ
وَنـَظَمٍ؛وَمَن قَالَ أَنَّ العَقَّادَ كَانَ
مَطْبُوعَاً فِي الشِّعْرِ؛فَلاَ نَفْعَلُ أَكْثَرَ مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِالدَّلِيلِ؛لِيَقِينِنَا أَنـَّهُ يَعْجَزُ عَنْ
ذَلِكَ ـ إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي العِلْمِ وَالإِنـْصَافِ .
وَمَا كَانَ العَقَّادُ بِنَاقِدٍ أَدَبِيٍّ تُرْفَعُ لَهُ الرَّأْسُ؛وَعِنْدَكَ قُرْآنـَهُ فِي النَّقْدِ
( الدِّيوَانُ فِي النَّقْدِ وَالأَدَبِ )؛فَإِنـِّي حِينَمَا بَدَأَتُ فِي مُطَالَعَتِهِ يَوْمَ أَنْ وَقَفْتُ عَلَيْهِ مُنْذُ
سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ؛كُنْتُ أَجِدُنِي أَقِفُ أَمَامَ كُلِّ كَلِمَةٍ لِهَيْبَةِ العَقَّادِ فِي نَفْسِي مِنْ أَثـَرِ هَذَا الصِّيتِ
الكَاذِبِ؛وَظَنَنْتُ أَنـَّنِي أَمَامَ كُولِيرِدْج العَرَبِ فِي النَّقْدِ؛فَإِذَا بِي أُصْدَمُ فِيهِ وَأَنـَا أَنـْظُرُ فِي كِتَابِهِ
الَّذِي طَبَّلَ لَهُ النَّاسُ وَقَالُوا أَنـَّهُ وَضَعَ فِيهِ فَلْسَفَتَهُ فِي النَّقْدِ الأَدَبِيِّ؛إِذْ رَأَيـْتُ رَجُلاً يُعِيدُ كَلاَمَاً
مَكْرُورَاً بِطَرِيقَةٍ أُسْلُوبِيَّةٍ يُجِيدُهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ؛وَلَمَّا أَخْرُج مِنْهُ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِمَقُولَتِهِ
المُنْتِنَةِ فِي الرَّافِعِيِّ الجَلِيلِ القَدْرِ؛إِذْ قَالَ فِيهِ يَوْمَئِذٍ؛وَقُبِّحَ مَا قَالَ:
(( إِيهٌ يَا خَفَافِيشَ الأَدَبِ !؛أَغْثَيْتُم نـُفُوسَنَا؛اغْثَى اللهُ نـُفُوسَكُم الضَّئِيلَةَ؛لاَ هَوَادَةَ بَعْدَ اليَوْمِ؛
السَّوْطُ فِي اليَدِ؛وَجُلُودُكُم لِمِثْلِ هَذَا السَّوْطِ خُلِقَت؛
وَسَنَفْرُغُ لَكُم أَيـُّهَا الثَّقَلاَنِ ! )) .... وَكَانَ هَذَا هُوَ غَايـَتُهُ فِي النَّقْدِ؛وَمَا كَانَ
العَقَّادُ مِنَ الرَّافِعِيِّ فِي البَيَانِ سِوَى صَبِيٍّ يَلْعَبُ !
وَإِنـِّي لاَ أَرَى فِي العَقَّادِ مَا يَدُلُّ عَلَى فُحُولَةٍ أَدَبِيَّةٍ؛وَلَوْلاَ عَبْقَرِيـَّاتُهُ الَّتِي
صَنَعَهَا بَعْدَمَا كَبِرَ سِنُّهُ؛لَمَا قِيلَ أَنـَّهُ تَرَكَ شَيْئَاً ذَا بَالٍ؛وَلاَ يَأْخُذَنـَّكَ بُهْرُجُ قَوْلِهِم
عَن العَقَّادِ وَالمَنْهَجِ النَّفْسِيِّ فِي كِتَابَيْهِ عَن ابـْنِ الرُّومِيِّ وَأَبِي نـُواس؛
فَمَا كَانَ العَقَّادُ بِمُبْدِعٍ فِي تَحْلِيلِهِ النَّفْسِيِّ؛بـَل دَلَّ السَّبْرُ عَلَى أَنـَّهُ كَانَ يَسِيرُ أَحْيَانـَاً
فِي الطَّرِيقِ الخَطَأِ فِي فَـنِّ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْلِيلِ النَّفْسِيِّ؛وَلَوْلاَ أَنـَّهُ كَانَ سِيَاسِيَّاً خَطِيرَاً؛
وَلَوْلاَ أَنـَّهُ أُيـِّدَ بِسَعْدِ زَغْلُول وَحِزْبِ الوَفْدِ؛لَمَا كَانَت لِلْعَقَّادِ هَذِهِ الهَيْبَةُ الَّتِي صُنِعَت لَهُ؛
وَلَوْ بـَقِيَ أَدِيبَاً وَلَم يَطْرُق بـَابَ السِّياسَةِ؛لَمَا كَانَ العَقَّادُ هُوَ العَقَّاد؛فَلَوْ قُلْتَ أَنـَّهُ قَدَرُهُ
هَيَّأَ لَهُ لأَصَبْتَ؛وَلَوْ قُلْتَ أَنـَّهُ عِلْمُهُ
لَكُنْتَ بَعِيدَاً عَنْ مَعْنَى المَعْرِفَةِ وَلَم تَقْتَرِب مِنَ الصَّوَابِ بِحَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ .